الشعر في العصر الجاهلي
تعريف الشعر
الجاهلي :
يمثِّل الشِّعر في العصر الجاهليّ نمطًا من
أنماط الفنِّ التَّعبيريّ، اتَّسم بسماتٍ خاصَّةٍ ميَّزته عن سواه من حيث الشَّكل
والأسلوب والرُّؤية، وسمِّي الشِّعر ما قبل الإسلام بالشِّعر الجاهلي لأنَّه
يعبِّر عن أفكار الإنسان ما قبل الإسلام ومواقفه من الحياة ورؤيته للكون والوجود،
ولا يقتصر هذا على الموقف الدِّينيِّ فقط بل على المناحي السِّياسيَّة
والاجتماعيَّة والفلسفيَّة أيضًا، والقصيدة الجاهليَّة هي كلُّ قصيدةٍ كتبت قبل
الإسلام، ويمكن تعريفها بأنَّها: التَّعبير الشِّعري عن رؤى ومواقف جاهليَّة
باستخدام أدواتٍ تركيبيَّةٍ وبلاغيَّةٍ وإيقاعيَّةٍ ذات صبغةٍ جاهليَّة.
يشكِّل هذا الشِّعر مرآةً
للمجتمع العربيّ، بما ينقله من صورٍ دقيقةٍ للعادات والتَّقاليد العربيَّة،
بالإضافة إلى ما يتمتَّع به من غنىً فنيّ لما فيه من قيمةٍ فنيَّةٍ وجمالٍ في
الصُّور والمعاني الموحية، مما يجعله يجسِّد ذروة الشِّعر العربيّ، وقد تبوَّأ
الشُّعراء في ذلك الحين مكانةً مرموقةً عالية بين النَّاس، فقد كانوا ألسنة
لقبائلهم، والنَّاطقين الرَّسميين بأسمائهم في المحافل، فهم من يرفعون شأنها
وينشرون فضائلها ويدافعون عنها في الخصومات.
نشأة الشعر الجاهلي :
فقد كشف الشِّعر الجاهليّ عن مظهرٍ حضاريٍّ ارتبط
بحياة العرب الفكريَّة قبل الإسلام، حيث كشف عن معرفة العرب للكتابة الَّتي نقلها إلى
قريش أبو قيس بن عبد مناف بن زهرة، أو حرب بن أميَّة على اختلاف الرِّواية حول ذلك،
وقد انتشرت الكتابة في مكَّة دون غيرها لكونها مركزًا تجاريًّا وحضاريًّا يرد إليه
النَّاس من القبائل الأخرى.
أوَّل من سلك مسلك الشِّعر وسهَّل
الطَّريق إليه -حسب رواية الجاحظ- هما امرؤ القيس بن حجر ومهلهل بن ربيعة، وإذا قيست
المدَّة الَّتي ظهر فيها الشِّعر وجدناها تقدَّر بمئةٍ وخمسين إلى مئتي عامٍ قبل الإسلام،
وهذا التَّّقدير لعمر الشِّعر تقدير حسابيّ بحت قد لا يكون دقيقًا كفاية، فمن غير الممكن
أن يكون امرؤ القيس والمهلهل قد ابتدعا الأوزان الشِّعريَّة والقوافي دون أن يسبقهما
إليها أحدٌ بأشعارٍ فتحت قرائحهم إلى سواها، فإنَّ حساب الجاحظ ذاك يسقط على ما وصل
إلينا من أشعار المهلهل وامرئ القيس ولا يُسقط على عمر الشِّعر عامَّة، ويمكن الاستدلال
بما جاء به الجاحظ إلى أنَّ امرأ القيس والمهلهل هما من أقدم شعراء الجاهليَّة.
يذكر ابن سلَّام في كتابه
"طبقات فحول الشُّعراء" أنَّ العرب ابتدأت الشِّعر بأبياتٍ قصار يقولها واحدهم
عند الحاجة، ثمَّ طوَّلت القصائد فيما بعد في عهد عبد المطَّلب وهاشم بن عبد مناف،
كما يذكر أنَّ أوَّل من قصد القصائد وذكر الوقائع هو المهلهل بن ربيعة التَّغلبيّ،
ثمّ جاء من بعده امرؤ القيس وقد سبق العرب إلى أشياء في الشِّعر لم تكن فيه وابتدعها
فاستحسنوها من بعده وتبعوه.
موضوعات الشعر
الجاهلي :
تحدث قدامة بن جعفر في كتابه
"نقد الشعر" عن موضوعات الشِّعر الجاهليّ وأجملها في ستَّة موضوعات، من
رثاءٍ وهجاءٍ ومديحٍ ووصفٍ ونسيبٍ وتشبيه، وقسَّم هذه الموضوعات السِّتَّة إلى
بابين اثنين هما المدح الَّذي يضم الفخر والرِّثاء والشُّكر والنَّسيب، والهجاء
الَّذي يضم الذَّم والتَّأنيب والاستبطاء والعتاب، ويضيف إليهما بابًا ثالثًا في
الشِّعر هو الحكمة وما يندرج ضمنها من زهدٍ ومواعظَ وأمثال، ويقابلها اللَّهو بما
فيه من موضوعات الغزل والمجون.
بينما يعدِّد ابن رشيق
موضوعات الشِّعر في كتابه "العمدة" ضمن تسعة محاور تدور حولها، وهي
المديح والافتخار والرِّثاء والنَّسيب والاقتضاء والاستنجاز والهجاء والوعيد
والإنذار والعتاب والاعتذار، وهو ليس دقيقًا كفاية في هذا التّعداد خاصَّة وأنَّه
قد أهمل ذكر الوصف وهو عنصرٌ أساسيٌّ في الشِّعر عامَّة والجاهليّ خاصَّةً، بينما
يحصر أبو هلال العسكريّ أقسام الشِّعر في الجاهليَّة في خمسة موضوعاتٍ هي: الهجاء
والوصف والمديح والتَّشبيه والمراثي، وقد زاد النَّابغة عليها الاعتذار، ويضاف إلى
هذا التَّقسيم المذكور موضوع آخر هو الحماسة، فقد كان منتشرًا في الشِّعر الجاهليّ
أكثر من سواه.
لا يمكن استقصاء التَّرتيب
الزَّمني الدَّقيق لهذه الموضوعات، ولا يمكن معرفة كيفية البدء في تداولها على وجه
الدِّقة، فقد تطوَّرت هذه الموضوعات عن صيغتها الأولى، وأغلب الظَّن أنَّها
تحوَّلت من أدعية للآلهة وتعويذات من الكهنة وابتهالات فصارت قصائد واتسعت
موضوعاتها وتحوَّلت إلى شكلها المعروف بالنِّسبة إلينا، وربَّما ظلَّت هذه الصِّلة
القديمة بين الشِّعر والتَّعاويذ لصيقةً بشعراء العصر الجاهليّ حيث كان بعضهم
يدَّعي أنَّ له تابعًا من الجن، وكانت بعض الأساطير تقول إنَّ لكلِّ شاعرٍ شيطان،
ومما يؤكِّد ذلك اتهام الرَّسول الكريم محمَّد -صلَّى الله عليه وسلَّم- بالشِّعر
والسِّحر حين أتى برسالة الإسلام، مما يؤكِّد ارتباط الشِّعر لديهم بالسِّحر
والتَّعاويذ.
خصائص الشعر الجاهلي :
اتَّسم الشِّعر العربيّ في
العصر الجاهليّ بسماتٍ ميَّزته عن سواه من حيث المعاني والألفاظ، حيث يلاحظ في
بنية القصيدة الجاهليَّة:
·
وضوح المعاني وبساطتها وبعدها عن التَّكلف والخيال: فالشَّاعر
الجاهليّ لم يعرف الغلو والمبالغة، ويعود هذا الوضوح والبساطة إلى رغبة الشَّاعر
في نقل أحاسيسه ووصفه للأشياء نقلاً واقعيًّا، مما جعل الشِّعر الجاهليّ وثيقةً
تاريخيَّةً لمعرفة الحياة في ذلك العصر.
·
تقديم المعاني الذِّهنيَّة في قالبٍ محسوس: حتى يغدو المعنويُّ
ماديًّا ملموسًا للمتلقِّي لا غموض فيه ولا وجود للخيال إلَّا قليلاً. مما جعله
بعيدًا عن التَّحليل، فهو يغذِّي خياله بالعالم الحسِّي الَّذي يحيط به، مما يجعله
دقيقًا في وصفه وكأنَّه نحَّاتٌ يشرف على تمثاله بكلِّ عناية.
·
الدوران حول معانٍ واحدةٍ: حيث يشتركون في طرائق وصف النَّاقة
وبكاء الدِّيار ومعاني الحماسة والغزل والرِّثاء وغيرها، فنرى في قصائدهم تقليدًا
واضحًا سببه ضيق المعاني، إلَّا أنَّهم قدَّموها في قالبٍ حيويٍّ فيه الكثير من
الحركة التي تشبه نمط حياتهم.
·
السُّرعة في تناول المعنى: مما جعل واحدهم لا يقف على معنىً واحدٍ
طويلاً، وهو ما جعل الأبيات الشِّعريَّة الجاهليَّة تتَّسم باستقلاليَّة كلٍّ
منها، فنجد البيت الشِّعري وحدةً معنويَّةً مستقلَّةً بذاتها فاتَّسعت القصيدة
الطَّويلة إلى عدَّة موضوعات مختلفةٍ مما ألبس أشعارهم طابعًا قصصيًّا.